معاوية بن ابي سفيان

بسم الله الرحمن الر حيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد قضى الله بحكمته أن يكون لنبيه المصطفى المختار صحبٌ كرام؛ ورجال أفذاذ، هم خير الخلق بعد الأنبياء، وهم الذين حملوا رسالة هذا الدين وبثّها في أصقاع المعمورة، واختصهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، ولولا انفرادهم بالأفضلية والخيرية؛ لما اختيروا لهذه الصحبة العظيمة، والتي هي أجلّ مرافقة على مرّ العصور؛ كيف لا! وهي مرافقة أفضل الخلق وأكرمهم عليه الصلاة والسلام.
ثم إنه قد وقع بين البعض من الصحابة رضوان الله عليهم شيء من الخلاف في أمور اجتهدوا فيها، ورأى كلٌ منهم أنه على الحق، ولم يكن اختلافهم هذا من أجل دنياً يرغبون إصابتها، ولا ملك يريدون انتزاعه ـ كما يتوهم البعض من العامة؛ بل كان السبب المنشئ لهذا الخلاف هو: إحقاق الحق؛ الذي يرى كلٌ منهم أنه معه، فرضي الله عنهم أجمعين.
ومن المؤسف أن يقع البعض في الصحابة الأخيار، وأن ينال ممن صحبوا الرسول الكريم، وشهد لهم كبار هذه الأمة بعد رسولها بالخير والصلاح، ونصّبوهم المناصب العالية في دولتهم، وسيّروهم على الجيوش الفاتحة لبلاد العالم آنذاك.
ومن هؤلاء الصحابة الكرام، الصحابي الجليل، الخليفة والملك القائد، صاحب الفتوحات الإسلامية، والقائد المحنّك، وداهية زمانه: معاوية بن أبي سفيان، وأرضاه.
من هو معاوية؟
هو: معاوية بن أبي سفيان، واسم أبي سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، يكنى أبا عبدالرحمن.
أمه: هند بنت عتبة بنت ربيعة بن عبد شمس، وأمها: صفية بنت أمية بن حارثة بن الأقوص من بني سليم.
كان أبيض طويلاً، أبيض الرأس واللحية، أصابته لُقوةٌاللقوة: داء يصيب الوجه في آخر حياته.
قال أسلم مولى عمر: قدم علينا معاوية وهو أبيض الناس وأجملهم.
ولقد كان حليماً وقوراً، رئيساً سيداً في الناس، كريماً عادلاً شهماً.
قال المدائني: عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صغير؛ فقال: إني لأظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند ـ أم معاوية ـ ثَكِلتُهُ إن كان لا يسود إلا قومه.
إسلامه
أسلم هو وأبوه وأخوه يزيد وأمه يوم فتح مكة.
وروي عنه أنه قال: ( أسلمت يوم القضية ـ أي: يوم عمرة القضاء، وكتمت إسلامي خوفاً من أبي.
قال معاوية: ( لما كان يوم الحديبية وصدّت قريش رسول الله عن البيت، ودافعوه بالروحاء وكتبوا بينهم القضيّة؛ وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي هند بنت عتبة، فقالت: إيّاك أن تخالف أباك، وأن نقطع أمراً دونه فيقطع عليك القوت، وكان أبي يومئذ غائباً في سوق حباشة.
قال: ( فأسلمت وأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله من الحديبية وإني مصدّق به، وأنا على ذلك أكتمه من أبي سفيان، ودخل رسول الله عمرة القضية وأنا مسلم مصدق به، وعَلِمَ أبو سفيان بإسلامي فقال لي يوماً: لكن أخوك خير منك، وهو على ديني، فقلت: لم آل نفسي خيراً.
فضائله
(1) كان أحد الكتاب لرسول الله ، وقيل إنه كان يكتب الوحي، وفي هذه المسألة خلاف بين المؤرخين، وكان يكتب رسائل النبي لرؤساء القبائل العربية.
(2) شهد مع رسول الله حنيناً، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب وزنها له بلال رضي الله عنه.
(3) شهد اليمامة، ونقل بعض المؤرخين أن معاوية ممن ساهم في قتل مسيلمة الكذاب.
(4) صحب رسول الله وروى عنه أحاديث كثيرة؛ في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد.
(5) روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين.
ثناء الصحابة والتابعين عليه
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رجوعه من صفين: ( لا تَكرهوا إمارة معاوية، والله لئن فقدتموه لكأني أنظرُ إلى الروؤس تندرُ عن كواهلها.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب ـ يعني معاوية.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما رأيت رجلاً أخلق للملك من معاوية، لم يكن بالضيّق الحصر.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ( علمت بما كان معاوية يغلب الناس، كان إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار ).
وعنه قال: ( ما رأيت بعد رسول الله أسود من معاوية ) أي: من السيادة، قيل: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: ( كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله أسود من معاوية ).
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: ( لن يملك أحدٌ هذه الأمة ما ملك معاوية ).
وعن قبيصة بن جابر قال: ( صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطل جهلاً، ولا أبعد أناةً منه.(
عن أبي إسحاق قال: ( كان معاوية؛ وما رأينا بعده مثله ).
حكم سب الصحابة
ينبغي لكل مسلم أن يعلم أنه لا يجوز له بحال من الأحوال لعن أحد من الصحابة، أو سبّه، ذلك أنهم أصحاب رسول الله ، وهم نَقَلة هذا الدين.
قال رسول الله : { لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً، ما بلغ مدّ أحد ولا نصيفه { [متفق عليه].
وقال رسول الله : { خير الناس قرني، ثم الذي يلونهم، ثم الذي يلونهم { [رواه البخاري ومسلم].
فهم رضوان الله عليهم خيرٌ من الحواريين أصحاب عيسى، وخير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا مع هود ونوح وغيرهم، ولا يوجد في أتباع الأنبياء من هو أفضل من الصحابة، ودليل ذلك الحديث الآنف الذكر (انظر فتاوى ابن عثيمين رحمه الله
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن من يلعن معاوية، فماذا يجب عليه؟
فأجاب: ( الحمد لله، مَن لعن أحداً من أصحاب النبي كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ونحوهما؛ ومن هو أفضل من هؤلاء: كأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة ونحوهما، أو من هو أفضل من هؤلاء: كطلحة والزبير، وعثمان وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق وعمر، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي فإنه مستحق للعقوبة البليغة بإتفاق أئمة الدين، وتنازع العلماء: هل يعاقب بالقتل، أم ما دون القتل؟ كما بسطنا ذلك في غير هذا الموقع ) [مجموع الفتاوى:35[.
ولماذا يُصرّ البعض على الخوض فيما وقع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من خلاف، على الرغم من أن كثيراً من العلماء إن لم يكن جُلُّهم؛ ينصحون بعدم التعرض لهذه الفتنة، فقد تأول كل منهم واجتهد، ولم يكن هدفهم الحظوظ النفسية أو الدنيوية، بل كان هدفهم قيادة هذه الأمة إلى بر الأمان؛ كلٌ وفق اجتهاده ـ وهذا ما أقرّه العلماء..
فمعاوية يعترف بأفضلية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه خير منه، أورد ابن عساكر رحمه الله تعالى في كتابه تاريخ دمشق ما نصّه: ( جاء أبو موسى الخولاني وأناس معه إلى معاوية فقالوا له: أنت تنازع عليّاً أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله! إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وإنه لأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً وأنا ابن عمه؟ وإنما أطلب بدم عثمان؛ فأتوه فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان، وأُسلم له.
وإن من العقل والروية؛ أن يُعرِض المسلم عن هذا الخلاف، وأن لا يتطرق له بحال من الأحوال، ومن سمع شيئاً مما وقع بينهم فما عليه إلا الاقتداء بالإمام أحمد حينما جاءه ذلك السائل يسأله عما جرى بين علي ومعاوية، فأعرض الإمام عنه، فقيل له: يا أبا عبدالله! هو رجل من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: ( اقرأ: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [البقرة:134] ) هذا هو الجواب نحو هذه الفتنة؛ لا أن يتصدر بها المجالس، ويخطأ هذا، ويصوّب ذاك!
فمعاوية صحابيٌ جليل، لا تجوز الوقيعة فيه، فقد كان مُجتهداً، وينبغي للمسلم عند ذكره أن يبيّن فضائله ومناقبه؛ لا أن يقع فيه، فابن عباس عاصر الأحداث الدائرة بين علي ومعاوية، وهو أجدر بالحكم في هذا الأمر؛ وعلى الرغم من هذا؛ إلا أنه حين ذُكر معاوية عنده قال: ( تِلادُ ابن هند، ما أكرم حسبه، وأكرم مقدرته، والله ما شتمنا على منبرٍ قط، ولا بالأرض، ضناً منه بأحسابنا وحسبه.
كان معاوية من المشاركين في معركة اليرموك الشهيرة، وأورد الطبري رحمه الله تعالى أن معاوية كان من الموقعين على وثيقة إستلام مدينة القدس بعد معركة اليرموك، والتي توّجها الخليفة عمر بحضوره إلى فلسطين، وكان معاوية والياً على الشام ذلك الوقت.
عن الإمام أحمد قال: ( إذا رأيت الرجل يذكر واحداً من أصحاب محمد بسوء؛ فاتهمه على الإسلام ).
وقيل لابن المبارك: ما نقول في معاوية؟ هل هو عندك أفضل أم عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: ( لتُرابٌ في مِنْخَري معاوية مع رسول الله خيرٌ ـ أو أفضل ـ من عمر بن عبدالعزيز ). فعمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه؛ مع جلال قدره، وعلمه، وزهده، وعدله، لا يقاس بمعاوية؛ لأن هذا صحابي؛ وذاك تابعي!، ولقد سأل رجل المعافى بن عمران رحمه الله تعالى قائلاً: يا أبا مسعود! أين عمر بن عبدالعزيز من معاوية؟ فغضب وقال: يومٌ من معاوية أفضل من عمر بن عبدالعزيز عُمُره )، ثم التفت إليه فقال: تجعل رجلاً من أصحاب محمد مثل رجل من التابعين .
قال الإمام الذهبي رحمه الله: ( حسبك بمن يُؤمّر عمر، ثم عثمان على إقليم ـ وهو ثغر ـ فيضبطه، ويقوم به أتمّ قيام، ويرضى الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم قد تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك ).
قال المدائني: ( كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: هذا كسرى العرب )
ولعل مما تجدر الإشارة إليه في ثنايا هذه الأسطر؛ أن يُبين كثيراً مما قيل ضدّ معاوية لا حقيقة له، ولعله من دسّ الرافضة؛ الذين يحملون عليه، لا بسبب! إلا لامتناعه التسليم لعليّ رضي الله عنه.
ولولا فضل معاوية ومكانته عند الصحابة لما استعمله أمير المؤمنين عمر خلفاً لأخيه يزيد بعد موته بالشام، فكان في الشام خليفة عشرون سنة، وملكاً عشرون سنة، وكان سلطانه قوي، فقد ورد على لسان ابن عباس أنه قال: ( ما رأيت بعد رسول الله أسْوَدَ من معاوية )، قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: ( كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله أسود من معاوية ) أي في السيادة.
ثم إن معظم من ذكر معاوية ـ إما بسوء كالرافضة، أو الغلاة الذين ينابذونهم ـ قد طغوا في ذمّهم إياه، أو مديحهم له بشكل غير مقبول البتة.
قال ابن الجوزي في كتابه الموضوعات: ( قد تعصّب قوم ممن يدّعي السنة، فوضعوا في فضل معاوية أحاديث ليغيظوا الرافضة، وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا في ذمّه أحاديث، وكلا الفريقين على الخطأ القبيح )
وما أجمل أن نختم هذه الأسطر بقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ( ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم. وما وقع: منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً. فالخوض فيما شجر يُوقع في نفوس كثير من الناس بُغضاً وذماً، ويكون هو في ذلك مخطئاً، بل عاصياً، فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك؛ فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله ولا رسوله: إما من ذمّ من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمور لا تستحق المدح ).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قد تقدم في الحديث أن الخلافة بعده عليه السلام ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً، وقد انقضت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي؛ فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 8/22‏)‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الفضل بن عياض، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة الخشني، عن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة قالوا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا الأمر بدا رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكاً عضوضاً، ثم كائن عتواً وجبرية وفساداً في الأرض، يستحلون الحرير، والفروج، والخمور، ويرزقون على ذلك وينصرون حتى يلقوا الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏ إسناده جيد‏.‏ وقد ذكرنا في ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ الحديث الوارد من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وفيه ضعف عن عبد الملك بن عمير قال‏:‏ قال معاوية‏:‏ والله ما حملني على الخلافة إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاوية إن ملكت فأحسن‏)‏‏)‏‏.‏ رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن العباس بن محمد، عن محمد بن سابق، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسماعيل ثم قال البيهقي‏:‏ وله شواهد من وجوه أخر‏.‏ منها‏:‏ حديث عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن جده سعيد أن معاوية أخذ الإداوة فتبع رسول الله فنظر إليه فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏يا معاوية إن وليت أمراً فاتق الله واعدل‏)‏‏)‏‏.‏ قال معاوية‏:‏ فما زلت أظن أني مبتلىً بعمل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومنها‏:‏ حديث راشد بن سعد، عن معاوية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم‏)‏‏)‏‏.‏ قال أبو الدرداء‏:‏ كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفعه الله بها‏.‏ ثم روى البيهقي من طريق هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أبيه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏الخلافة بالمدينة، والملك بالشام‏)‏‏)‏، غريب جداً‏.‏ وروي من طريق أبي إدريس، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏بينا أنا نائم رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعُمد به إلى الشام، وإن الإيمان حين تقع الفتنة بالشام‏)‏‏)‏‏.‏ وقد رواه سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن يونس بن ميسرة، عن عبد الله بن عمرو‏.‏ ورواه الوليد بن مسلم، عن عفير بن معدان، عن سليمان، عن عامر، عن أبي أمامة‏.‏ وروى يعقوب بن سفيان، عن نصر بن محمد بن سليمان السلمي الحمصي، عن أبيه، عن عبد الله بن قيس، سمعت عمر بن الخطاب يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏رأيت عموداً من نور خرج من تحت رأسي ساطعاً حتى استقر بالشام‏)‏‏)‏‏.‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن صفوان قال‏:‏ قال رجل يوم صفين‏:‏ اللهم العن أهل الشام، فقال له علي‏:‏ لا تسب أهل الشام فإن بها الأبدال فإن بها الأبدال، فإن بها الأبدال‏.‏ وقد روى هذا الحديث من وجه آخر مرفوعاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/ 23‏)‏ فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه هو‏:‏ معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي أبو عبد الرحمن القرشي الأموي، خال أمير المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح‏.‏ وقد رُوي عن معاوية أنه قال‏:‏ أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح، وقد كان أبوه من سادات قريش في الجاهلية، وآلت إليه رياسة قريش بعد يوم بدر، فكان هو أمير الحروب من ذلك الجانب، وكان رئيساً مطاعاً ذا مالٍ جزيل، ولما أسلم قال‏:‏ يا رسول الله مرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏، قال‏:‏ ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم‏)‏‏)‏‏.‏ ثم سأل أن يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته، وهي عزة بنت أبي سفيان واستعان على ذلك بأختها أم حبيبة، فلم يقع ذلك، وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحل له‏.‏ وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع، وأفردنا له مصنفاً على حدة ولله الحمد والمنة‏.‏ والمقصود أن معاوية كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيره من كتّاب الوحي رضي الله عنهم‏.‏ ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان، وأقره على ذلك عثمان بن عفان وزاده بلاداً أخرى، وهو الذي بنى القبة الخضراء بدمشق وسكنها أربعين سنة، قاله الحافظ ابن عساكر‏.‏ ولما ولي علي بن أبي طالب الخلافة أشار عليه كثير من أمرائه ممن باشر قتل عثمان أن يعزل معاوية عن الشام ويولي عليها سهل بن حُنيف فعزله فلم ينتظم عزله والتف عليه جماعة من أهل الشام ومانع علياً عنها وقد قال‏:‏ لا أبايعه حتى يسلمني قتلة عثمان فإنه قتل مظلوماً، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وروى الطبراني عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما زلت موقناً أن معاوية يلي الملك من هذه الآية‏.‏ أوردنا سنده ومتنه عند تفسير هذه الآية‏.‏ فلما امتنع معاوية من البيعة لعلي حتى يسلمه القتلة، كان من صفين ما قدمنا ذكره، ثم آل الأمر إلى التحكيم، فكان من أمر عمرو بن العاص وأبى موسى ما أسلفناه من قوة جانب أهل الشام في الصعدة الظاهرة‏.‏ واستفحل أمر معاوية، ولم يزل أمر علي في اختلاف مع أصحابه حتى قتله ابن ملجم كما تقدم، فعند ذلك بايع أهل العراق الحسن بن علي، وبايع أهل الشام لمعاوية بن أبي سفيان‏.‏ ثم ركب الحسن في جنود العراق عن غير إرادة منه، وركب معاوية في أهل الشام‏.‏ فلما تواجه الجيشان وتقابل الفريقان سعى الناس بينهما في الصلح فانتهى الحال إلى أن خلع الحسن نفسه من الخلافة وسلم الملك إلى معاوية بن أبي سفيان‏.‏ وكان ذلك في ربيع الأول من هذه السنة - أعني سنة إحدى وأربعين - ودخل معاوية إلى الكوفة فخطب الناس بها خطبة بليغة بعد ما بايعه الناس - واستوثقت له الممالك شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، وَسَمي هذا العام‏:‏ عام الجامعة لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد الفرقة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8 /24‏)‏ فولى معاوية قضاء الشام لفضالة بن عبيد، ثم بعده لأبي إدريس الخولاني‏.‏ وكان على شرطته قيس بن حمزة، وكان كاتبه وصاحب أمره سرحون بن منصور الرومي، ويقال إنه أول من اتخذ الحرس وأول من حزم الكتب وختمها، وكان أول الأحداث في دولته رضي الله عنه‏.‏ خروج طائفة من الخوارج عليه وكان سبب ذلك أن معاوية لما دخل الكوفة وخرج الحسن وأهله منها قاصدين إلى الحجاز، قالت فرقة من الخوارج - نحو من خمسمائة -‏:‏ جاء ما لا يشك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فساروا حتى قربوا من الكوفة وعليهم فروه بن نوفل، فبعث إليهم معاوية خيلاً من أهل الشام فطردوا الشاميين، فقال معاوية‏:‏ لا أمان لكم عندي حتى تكفوا بوائقكم‏.‏ فخرجوا إلى الخوارج فقالت لهم الخوارج‏:‏ ويلكم ما تبغون‏؟‏ أليس معاوية عدوكم وعدونا‏؟‏ فدعونا حتى نقاتله فإن أصبناه كنا قد كفيناكموه، وإن أُصبنا كنتم قد كفيتمونا‏.‏ فقالوا‏:‏ لا والله حتى نقاتلكم‏.‏ فقالت الخوارج‏:‏ يرحم الله إخواننا من أهل النهروان كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، فاقتتلوا فهزمهم أهل الكوفة وطردوهم‏.‏ ثم إن معاوية أراد أن يستخلف على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له المغيرة بن شعبة‏:‏ توليه الكوفة وأباه مصر وتبقى أنت بين لحيي الأسد‏؟‏ فثناه عن ذلك وولى عليها المغيرة بن شعبة، فاجتمع عمرو بن العاص بمعاوية فقال‏:‏ أتجعل المغيرة على الخراج‏؟‏ هلا وليت الخراج رجلاً آخر‏؟‏ فعزله عن الخراج وولاه على الصلاة، فقال المغيرة لعمرو في ذلك، فقال له‏:‏ ألست المشير على أمير المؤمنين في عبد الله بن عمرو‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏!‏ قال‏:‏ فهذه بتلك‏.‏ وفي هذه السنة وثب حمران بن أبان على البصرة فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية جيشاً ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية فسأله في الصفح والعفو، فعفى عنهم وأطلقهم وولى على البصرة بسر بن أبي أرطاة‏.‏ فتسلط على أولاد زياد يريد قتلهم، وذلك أن معاوية كتب إلى أبيهم ليحضر إليه فلبث، فكتب إليه بسر‏:‏ لئن لم تسرع إلى أمير المؤمنين وإلا قتلت بنيك، فبعث أبو بكرة إلى معاوية في ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 8/ 25‏)‏ وقد قال معاوية لأبي بكرة‏:‏ هل من عهد تعهده إلينا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيتك وتعمل صالحاً فإنك قد تقلدت عظيماً، خلافة الله في خلقه، فاتق الله فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث وأوشك أن يبلغ المدى فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عما كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تؤثرن على رضا الله شيئاً‏.‏ ثم ولى معاوية في آخر هذه السنة البصرة لعبد الله بن عامر، وذلك أن معاوية أراد أن يوليها لعتبة بن أبي سفيان فقال له ابن عامر‏:‏ إن لي بها أموالاً وودائع، وإن تولينها هلكتُ، فولاه إياها وأجابه إلى سؤاله في ذلك‏.‏ رحم الله الصحابي الجليل والخليفة المسلم معاوية بن ابي سفيان واسكنه فسيح جنانه والحمد لله رب العالمين .


المراجع: 24، تاريخ خليفة بن خياط ص 131، تاريخ مختصر الدول ص 103، تاريخ اليعقوبي ص 162، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 118، تذكرة الحفاظ ج 1/ص 8، تقريب التهذيب ج 2/ص 12، التنبيه والإشراف ص 291، تهذيب الأسماء واللغات ج 1/ص 321، تهذيب التهذيب ج 7/ص 142، الجرح والتعديل ص 156، طبقات الفقهاء ص 40، طبقات ابن سعد ج 3/ص 53، العقد الفريد ج 4/ص 310، الفخري ص 97، الكنى والأسماء ج 1/ص 8