حسني فريز



حسني فريز: شاعر وأديب ومعلم ارتبط اسمه بمدارس السلط وحاراتها
ناغى الجمال وناداهُ على وجل وخفّ بالوحي يُدني باسم الأمل
بالشعرِ يبعثهُ زهراً وينشدهُ عطراً ويذخره للموقف الجلل
في منبجٍ نسمت همّاته وذكت وإينعت في ظلال الحب والغزل

لم يغب ذكر حسني فريز شاعر السلط عن مجالس شعراء ومثقفي الوطن الذين يستذكرون قدرة هذا الأديب والمربي على تطويع اللغة وبناء مداميك شعرية لا سيما في الغزل والوطنيات.
"شاعر السلط" أو شاعر "الحب والبلد" كما يطيب للبعض تسميته، من مواليد السلط عام 1907 غير أنه لم يَعرف اليوم والشهر الذي ولِدَ فيهما. اسمه حسني فريز الحاج حسين من عائلة خزنة كاتبي التي تتحدر من أصول دمشقية. جاء جده الى السلط في منتصف القرن التاسع عشر وأصبح من أبنائها البارين وأنشأ تجارةً فيها.
عاش الابن البكر في بيئة "فقيرة" في كنف أسرة يقودها والد مُحب للشعر والنحت إذ كان من بين من ساهموا في زخرفة باب المسجد الحسيني في عمان. والدة هذا الشاعر تتحدر من نابلس، وقد قيل في وصفها إنها "مستشارة لجاراتها تحفظ الأمثال التي حفظتها عنها وتجيد التمثيل". لحسني فريز أخوان وأربع شقيقات.
تزوج أديبنا من سيدة خليلية عُرف عنها الثقافة العالية كما تتحدث الفرنسية والتركية والعربية. أنجب الزوجان ست بنات أكبرهن نوار ولذلك يُكنى "بإبي نوار".
ظلم ذوي القربى
تشير بعض المراجع الثقافية إلى أن حسني فريز "حاول التقرب إلى افراد عائلة خزنة كاتبة خلال دراسته في الجامعة الأميركية في الشام لكنه لم يجد قبولاً منهم فغضب وحذف اسم عائلته من شهادتهِ الجامعية واكتفى باسم والده ليشتهر به".
عَمِل في طفولتهِ مع والده في أعمال البناء وبيع الخضار (الكوسا) قبل أن يشتري والده دكاناً صغيراً اصبح مصدر رزق للعائلة. وكان يذكُر خلال حديثهِ عن تلك المرحلة أنه "عرف حارات السلط كلها وهو في العاشرة من عمره تقريباً وجلس في معظم بيوت فلاحيها".
المعلم العتيق
نسبت إليه مدرسة حسني فريز الأساسية وهي من أعرق مدارس قصبة السلط تأسست عام 1968 بمحاذاة جامعة البلقاء التطبيقية. سميت هذه المدرسة باسمه عرفان لحسني فريز لما قدمه للعلم والتعليم في الأردن. كذلك أطلق أمانة العاصمة اسمه على أحد شوارع جبل اللويبدة تخليدا لذكراه.
اتسمت شخصية "أبو نوّار" بصفات عدّة تشكلت من خلاصة عوامل أثرت في حياته كالبيئة السلطية المحببة الى قلبه التي عاشها بحذافيرها وتفاصيلها الدقيقة. في هذه البيئة هام الشاعر/المعلم بين الخضرة الدائمة والماء الدافق وسط الينابيع والكروم.
بدأ الأديب الكبير بمداعبة نمنمات الشعر منذ نعومة أظفاره. ويقول في ذلك إنه بدأ نظم الشعر عندما كان في الخامس الإبتدائي. ومع انتقاله إلى مقاعد الثانوية "استقام الوزن والمعنى والأسلوب" في شعر فريز . أول قصيدة نُشرت له في ذلك الحين نشرت في مجلة الوفاق بعنوان (متى) .
الجامعة تصقل فريز
وكان لدراستهِ الجامعية أثر في تنمية قدراتهِ الشعرية واتساع آفاقهِ في تلك المرحلة المهمة من عمره. يبرر فريز طغيان الحب والغزل والرومانسية على أشعاره في مقدمة ديوانهِ (هياكل الحب)، إذ يقول الشاعر المرهف: "من هنا كان إنتاج الشباب موصوفاً بحرارة العاطفة وبساطة الفكرة بعكس أدب الكهول والشيوخ". وكان شعره مليئا بالحب والشوق والنشوة والكبرياء.
أثر االمدرسة في تشكيل الموهبة
ولا ينكر حسني فريز تأثرة بأساتذته في المدرسة الثانوية في السلط ولاحقا في الجامعة الأميركية في بيروت. إذ بدت هذه التأثيرات واضحة في أفكاره وإتجاهاته السياسية القومية والاجتماعية. وبينما تقبل الشاب القادم من بيئة ريفية أنماط الحياة الغربية، بقي حنينه وانتماؤه في ذات الوقت لمحيطه العربي مناديا بالوحدة والتطور.
وأشار حسني فريز الى ذلك في قوله إن "دراستي في بيروت أثرت فيّ كثيراً فقد جئتها قروياً بدوياً. وما لدي من خجل وجهل بالحياة الاجتماعية ينبغي ان يتغير، فليس ما يفعله الشباب من تعلم الرقص جريمة والاستمتاع بالموسيقى الغربية خروجاً على حب العروبة ولا كفراً بالشيح والقيصوم. وكان لا بد أن ينقضي وقت قبل أن ارى فأغير وابدل".
حب الوطن
وكما كان لحسني فريز في الشعر الوطني والتغني بالأرض كذلك تغنّى بالقومية العربية بالارتكاز إلى بعد نظر سياسي في الكثير من القضايا العربية. فها هي قصيدته في بغداد تحكي واقعها الحالي
بغداد ليل الهوى حال تعطره أنفاسٌ واري الهوى بالشوق مشتعل
وران ليل الهوى والشك في بلدٍ تناحرت فيه اشتاتٌ من المِلل
وعمّ فيه فسادٌ عارم ومشت عدوى القطيعةِ من عُلو الى سفل
وللحب نصيب في حياة شاعرنا الذي كان يقول "شيئان لهما أعمق الأثر في حياتي الحب بمعناه العام للمرأة والطبيعة والصديق والقيم، والكره للإستعمار والظلم والإستبداد والفقر وما يعاكس الحب والصفاء".
وقد صبغت تلك العوامل شخصية حسني فريز الذي عرف كطيبة القلب وحلو المعشر، حب الوطن والسلط المُلهمة، مبادراً في تقديم العون لكل من يطرق بابه على الرغم من ظروفه المعيشية المتواضعة. فقد كان راتبه الوظيفي ومكافآته المالية من مساهماته في الصحف والمجلات هي مصدر عيشه.
بشاشة وصفاء
وعُرف عن فريز مرحه واللماحية العالية مقرونة بسخرية ومناوشات طريفة ذات مرام سياسية. وتحدثت مصادر عن أنه سليط اللسان ضيق الصدر حاد الخصومة. كان مطالعاً جيدا للقصص والروايات العربية كالمقامات والشعر لكبار الأدباء العرب، كذلك كان قارئاً للادب الغربي من شعر وروايات ومسرحيات أمثال شكسبير والروايات الروسية والفرنسية والألمانية.
مرحلة الدراسة في السلط ولبنان
كسائر أبناء جيله، كانت بدايته الدراسية في الكتاتيب في عهد الدولة العثمانية على يد الشيخ عبدالحليم زيد الكيلاني، تحت ظلال إحدى شجرات التوت الكبيرة في السلط. التحق بعد ذلك بالمدرسة الحكومية التركية حيث التدريس باللغة التركية، الى أن تاسست إمارة شرق الأردن وتحول التدريس إلى العربية. انضم إلى الصف الرابع عام 1921 وتابع دراسته الى أن تخرج في مدرسة السلط الثانوية عام 1927، في أول فوج.
من بين أساتذته محمود الكرمي، رشيد بقدونس، رشيد التميمي وسعيد البحرة في المرحلة الثانوية. ابتعث فريز للدراسة على نفقة مديرية المعارف في الجامعة الأميركية في بيروت لتفوقه في الدراسة، واختار دراسة التاريخ والأدب. تخرج من الجامعة عام 1932، ليصبح بين القلائل من الأردنيين الحائزين آنذاك على شهادات جامعية.
كان تأثره باساتذته واضحاً لا سيما رشيد بقدونس في قوميته ومحمود الكرمي في وطنيته. من أساتذة الجامعة تعلم دقة العبارة من بشارة الخوري والإنسانية من قسطنطين زريق.
مرحلة العمل
بعد عودته إلى السلط، شرع حسني فريز في إخراج ما في جعبته مما تشربهُ في بيروت أرض العلم والثقافة آنذاك، وتوجه الى مجال التدريس في المدارس الحكومية في السلط. غير أنه نُقل الى مدارس عمان بعد وقوع إضراب بين طلاب السلط أُتهم فريز بالتحريض عليه. من عمان نقل الى الكرك لكنه عاد إلى السلط ليتسلم إدارة مدرسة السلط الثانوية العريقة عام 1944. وتدرج في السلم الوظيفي حتى عُين مفتشاً للمعارف في 1946 وبقي فيها حتى 1952.
لم تتح الوظيفة لحسني فريز الشاعر الغوص في بحور الشعر كما يشاء، إذ تم تعيينهُ مراقباً للإستيراد والتصدير بخلاف رغبتهٍ عام 1952 وبقي فيها ست سنوات بعد أن إستغنت الحكومة عن خدماتهِ على أثر إضطرابات وتقلبات سياسية داخلية. على أن هزاع المجالي رئيس الوزراء في ذلك الوقت أعاده إلى وزارة التربية والتعليم بعد عام من الإستغناء عن خدماته، وأصبح مساعداً لوكيل الوزارة ثم وكيلاً لها الى أن تقاعد عام 1973.
بعد ذلك أُختير فريز ليكون مستشاراً ثقافياً في وزارة الإعلام والثقافة ومستشاراً ثقافياً للتلفزيون الأردني، وكان في ذات الحين عضواً في لجنة المناهج الأردنية وعضواً في مجمع اللغة العربية، بالإضافة الى كونه رئيساً لرابطة الكتّاب الأردنيين وإتحاد الكتّاب الأردنيين ومجمع اللغة العربية في الأردن. وفي العام 1989 مُنحه جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال جائزة الدولة التقديرية، وتسلمت الجائزة نيابةً عنه ابنته نوار لأن المرض كان قد أقعده.
نال فريز العديد من الأوسمة من بينها وسام الكوكب الأردني من الدرجة الثالثة (1950) من الملك عبدالله المؤسس، ووسام التربية من الدرجة الأولى (1971) من الملك حسين، ووسام القدس للثقافة والأدب والفن من فلسطين عام 1991.
الشعر ملاذه الأخير
ظل الشعر والأدب ملاذ الأديب الراحل في غمرة أحداث وتراكمات وشكلا وسيلة اتصال لعرض ما يجول في خاطره من مشاعر حب وتذمر، مدح ورثاء. وبقيت هذه القناة متنفسا للشارع الوطني كما خص السلط بوفير من الأشعار.
فلا تلمني على لهوٍ عُرفتُ بهِ فإنني إبن زمانٍ غير معتدلِ
ولم يكن لي قبل الشيب فلسفةٌ ولو تفلسفتُ ما قوّمتُ ذا مَيلِ
وتطرق شاعرنا إلى قضايا اجتماعية محاولا نقل معاناة الناس وهمومهم وآمالهم وتطلعاتهم إلى جانب قصائده الوطنية التي إشتهر بها واصبحت جزءاً من شخصيتهِ ذات الملامح الهادئة والدافئة. فقد عاش فريز فترات متقلبة من تاريخ البلاد وما كان يحل بها من منعطفات حادة بعذ ضياع فلسطين (1948) ثم انقضاض إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري عام 1967. على الجبهة العالمية، حفرت الحرب الكونية الأولى (1914-1918) ثم الثانية (1939-1944) أخاديد حزينة في وجدان الشاعر.
تعددت آثار حسني فريز الأدبية بين الشعر والرواية والقصص القصيرة والمسرحيات والكتابة للطفل وترجمة الكتب. ترك فريز اربعة دواوين شعر هي هياكل الحب (الجزء الأول) 1938 والجزء الثاني عام 1985، ديوان بلادي وديوان غزل وزجل وهو شعر باللهجةِ العامية. في الرواية له خمس روايات أولها "مغامرات تائبة" ثم حب في الفيحاء، زهر الزيزفون، العطر والتراب وجنة الحب.
لفريز مؤلفات باللغة الإنجليزية في ستينيات القرن الماضي هي "I remember" ( أتذكر) ويشير فيه الى طفولته ونشأته في، و ""Stories from the Arab world وهي قصص من العالم العربي، وقصة ""The shepherd boy يتحدث فيها عن حياة طفل يتيم.
في نهاية المطاف غادر شاعرنا الكبير حياة الدنيا بعد حياةٍ حافلة بالصراعات الشعرية أفرزت كنوزا أدبية. وكان قد أخذ نصيبه من سنوات العمر وعانى من المرض فترةً من الزمن وعاش 83 عاماً قبل أن يفارق السلط "الحبيبة الى قلبهِ" عام 1990 ليدفن في مقبرة عين الجادور في السلط.
حسبي من الدهر أني قد تركت لكم وشياً من اللفظ لم يُصبَغ ولم يَحلِ
أحببت كل جميلٍ من محبتهِ فالحب للزهر مثل الحب للكللِ